الوثائق التي تخرج علينا في برامج الفضائيات صباح مساء هي نفسها التي تستلقي علي صفحات الصحف مثل قتلي علي الطريق لم يتعرف علي جثامينهم أحد.
من غيرنا محروم من لحظة سكينة، من حق الراحة، حق اللعب الضروري لتجدد الحياة وتجدد الكتابة؟
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لم ينص علي الحق في اللعب، لكنه أورده ضمناً في إطار الحق في الراحة وأوقات الفراغ. وهذا البند من بنود الإعلان لايلتفت إليه في بلادنا، إذ لا يمكن الوصول إليه إلا بعد إقرار حق العمل بأجر عادل. وباستثناء مواطني دول الخليج فإن هذا الحق يصبح يوماً بعد يوم أبعد عن أحلام المواطن العربي.
في لائحة الحقوق يتقدم حق التعبير علي حق العمل بأجر عادل، والأخير بدوره يتقدم علي الحق في الراحة. وهذا هو الطبيعي حسب المنطق والمخيلة السوية التي وقفت وراء هذا الإعلان الطموح، فحق التعبير يمكن أن يحمي موارد الأوطان فتتوفر فرصة العمل المأجور جيداً، الذي يوفر بدوره حق وقت الفراغ. لكن بعض الديكتاتوريات العربية لم تعترف بحق التعبير من أساسه، بينما استطاعت مخيلة الشياطين في ديكتاتوريات أخري أن تجعل من حق التعبير شيئاً عديم النفع!
وفي الحالتين لم نصل إلي فرصة الجزاء العادل عن العمل. في ظل السكوت، وفي ظل الحق المنقوص في الكلام، نلهث في أشغالنا وعندما نلتقط أنفاسنا أمام شاشة تليفزيون أو بين سطور جريدة نجد الصياح، ونطلع علي مستندات تدين أنظمة قليلة الحياء، وعلي الرغم من نوايا الصارخين والمشاهدين الطيبة لا تنجح المستندات إلا في زيادة قنوطنا وغربتنا.
حولوا بصلابتهم في الباطل حق التعبير إلي مسخرة، والنقد إلي نوع من اللذة الذاتية المؤلمة التي لاتخلف وراءها سوي الإحساس بالوحدة والخواء!
آذونا في حيواتنا وفي كتابتنا. كل من ليس منهم صار صيّاحاً أو مستمعاً إلي الصياح، فكيف يكون شكل المداعبة التي يمكن أن يقدم عليها في المساء عاشق يمضي نهاراته في الصراخ، هل يمكن أن يثق في قدرة الابتسام أو رفة الرمش أو ارتعاشة الشفة في توصيل رسالة الحب؟!
الحرمان من الرهافة هو أحد الاعتداءات علي المستقبل التي لن تغتفر للدكتاتورية. والإيذاء الذي تصيب به ملكات الحب هو نفسه الذي توقعه بالكتابة. وهذا وذاك خسران لا يمكن تعويضه.
وليست الديكتاتورية وحدها ما يؤذي الحب والإبداع لكي نكون منصفين، بل الاحتلال، وهو ليس بعيداً أو منفصلاً عنها بالمناسبة، فكلاهما يتقوي بالآخر.
إنه الحصار إذ يحكم قبضته، فيؤذي الحب ويُكره النص علي اقتراف الشعار، أو يستنفد عمر الشخص فيما لاينفع، ويسلبه حق اللعب في كتابته أو علي الأقل الاستمتاع بألعاب الآخرين.
الخيبة تجري وراء الخيبة والكاتب يشعر بالواجب تجاه جدار يميل متصوراً قدرته علي تقويمه، ولا يتعظ من كثرة الذين دفنوا تحت جدران مالت ثم اضطجعت فوقهم، إما لأنهم انصرفوا عن إبداعهم بشكل كامل، أو لأنهم لم يتمكنوا في إبداعهم من التخلي عن الصوت العالي الذي يصرخون به في مقالاتهم كل يوم.
الصوت العالي صار فرض عين، يحرم الحب والكتابة من الصفاء، ويحرم المحب والكاتب من لحظة ينسي فيها الانتماء إلي هذا الجزء الحزين من العالم.
النسيان!
لماذا لم ينص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان علي هذا الحق، علي الأقل لمن يؤلمهم التذكر؟!
حتي لو لم نحب أو نكتب، لدينا الكثير مما يمكن أن نقرأه بحب لو تمتعنا بقليل من وقت الفراغ، بقليل من نسيان ورطة الوجود هنا.
لدينا ـ علي الأقل ـ ألف ليلة وليلة؛ النص الذي تتوالد فيه المتعة كما تتوالد في حياتنا الآلام.
أحلم بمتابعة مشروع مستحيل لقراءة ألف ليلة حتي نهايتها أو نهايتي، أيهما أقرب لأستمتع بألعاب مبدعيها العظماء المجهولين الذين انتقموا من السلاطين والملوك بهذا الخيال الداعر ضدهم، والذين أشبعوا جوع مستمعيهم إلي الطعام والجنس بالموائد العامرة والفًرش الناعمة والحمّامات العطرة.
وإن لم تكن ألف ليلة، فلدي كل منا كاتب واحد علي الأقل يحتاج إلي أعمار من الإبحار في عالمه؛ بورخيس العجيب مثلاً، كلما قرأنا نصاً وتوهمنا أننا عرفناه ينبثق بورخيس جديد من قصة أو قصيدة أو عبارة أخري!
أحد أحلامي المستحيلة أن أجمع كتبه وأجلس لأتعرف علي أبعاد هذا الكاتب، كاتب واحد يا ربي، أريد أن أطمئن إلي معرفته.
القليل يا ربي من وقت الفراغ، القليل من الصبر والنسيان؛ لأعرف من كان النمر الذي يحلم دائماً بأنه يلتهمه؟ هل كان ذلك النمر هو الزمن، هل كان الديكتاتور خوان بيرون، هل كان بورخيس ذاته هو النمر يحلم بأنه إنسان يلتهم الكتب؟!
أريد أن أعرف كيف استطاع بورخيس أن يكون عدة براخسة في ظل واقع كان كفيلاً بتحطيم البورخيس الواحد؟ هل عاني بورخيس مما يعانيه الكاتب العربي أم أن حصارنا أكثر إحكاماً من حصار الأرجنتين؟
وهل كان من الممكن أن يتمتع بهذه الإمكانية لو احتفظ ببصره أم أنه كان محظوظاً بالاختباء في العمي؟!
وهل علينا أن نصاب مثله بالعمي لنعيش ونحب ونكتب؟
مخبأ قاس، لم يطلبه أحد بعد أوديب، ونحن لم نرتكب ذنباً. ومن حقنا الاختباء في مكان ألطف، وليس ألطف من النوم عندما يكون الصحو بهذه الكلفة.
أريد أن أنام وأحلم بأن كل شيء في مكانه، وأنني لست مضطراً إلي قراءة كتب في الاقتصاد الذي لا أحبه، أو إنفاق الوقت في إحصاء المليارات الهاربة من صفحات الاقتصاد إلي صفحات الجريمة بالصحف، وأنه لن يكون مطلوباً مني أن أشجب سرقة أو اعتقالاً أو احتلالاً.
أريد أن أنام ولو بلا أحلام، بلا فرحة، بلا أحزان، مطمئناً وبليداً كحجر.